حادث الهجوم الإرهابي على كنيسة الإسكندرية أثار فزع المصريين، ليس فقط لأن الحادث الأثيم وقع في دار عبادة يفترض الأمن فيها، وليس فقط لأنه جرى في أعياد الميلاد المجيد، بل لأنه وقع من الأصل، وبالطريقة المحترفة التي نفذ بها، وفي العاصمة الثانية للبلاد، وليس في أعماق الصعيد النائي بمشكلاته وثاراته المتراكمة .
فقد كان آخر عهد مصر بحوادث إرهاب منتظمة في أواخر 1997، حين وقع حادث الأقصر الشهير، وراح ضحيته عشرات من السياح الأجانب، ومن وقتها لم تقع حوادث إرهاب سوى في شرق سيناء، في طابا ودهب وشرم الشيخ، في المنطقة منزوعة السلاح بمقتضى اتفاقات كامب ديفيد، وحيث تتكاثر الثغرات الأمنية، ويسهل الحصول على السلاح والمتفجرات، وتتداخل دواعي كراهية الإسرائيليين مع النقمة على الطبقة المترفة المتحالفة معهم، ومع دواعي ظلم مفزع واقع على أبناء سيناء، الذين تعاملهم السلطات كأنهم في معسكر اعتقال، وتتخفى بهمومهم وأوجاعهم عن مركز الصخب في القاهرة البعيدة عن حدود الشرق .
وقبل أسابيع طويلة من وقوع حادث الإسكندرية، كانت التهديدات معلنة من قبل ما يسمى 'تنظيم القاعدة'، وكان رد السلطات الأمنية المصرية يبدو واثقا، وأقرب إلى السخرية والاستهزاء بتهديدات 'القاعدة'، التي تعلقت باستهداف الكنائس، وقيل انه تم تشديد الإجراءات الأمنية، وطبيعي أنه يتم التشديد أكثر في الأعياد، وحيث يكثر رواد الكنائس، ومع ذلك وقع الحادث الدموي المروع وعلى نحو خاطف صاعق، وكأن الذين دبروه ونفذوه يسخرون بدورهم من أجهزة أمنية متضخمة متورمة، وأيا ما كانت أسماء هؤلاء، وأيا ما كانت الجهات التي تدعمهم، فقد كشف الحادث عن خرق أمني متسع، وعن تقصير أمني فادح يفتح الباب لخطر الإرهاب مجددا، ويغري بإعادة تكوين جماعات إرهابية جديدة، بعد ان أحيلت 'الجماعة الاسلامية' و'تنظيم الجهاد' إلى التقاعد، وكفت عن الإرهاب ببيانات وقف العنف، وتركت الساحة لعنف الدولة وحدها .
وقبل 24 ساعة من وقوع حادث الإسكندرية الدامي، كانت أجهزة الأمن المصرية مشغولة بإرهاب المواطنين، والاعتداء الوحشي على طلائع كفاية وأخواتها، الذين نظموا وقفة احتجاجية سلمية في دمنهور القريبة من الاسكندرية، وبهدف التصدي الشعبي لجريمة تحمل عنوان 'مولد أبو حصيرة '، الذي ظل يقام رغم صدور حكم قضائي نهائي بات بإلغائه، ويتدفق عليه مئات من الإسرائيليين، وفي ما يشبه التمهيد لإنشاء مستوطنة إسرائيلية في قلب الدلتا المصرية، وكان قرار وزارة الداخلية هو الدفاع عن الإسرائيليين، ومنع الوقفة الاحتجاجية، واعتقال عشرات من المتظاهرين، وتحويل شوارع دمنهور إلى مسرح لمطاردات شبه حربية، والتحقيق مع المعتقلين بتهمة بدت فاضحة كاشفة، فلم يقتصر التحقيق، كما جرت العادة، على اتهام المعتقلين بالانتماء لتنظيم كفاية 'المحظور'، بل اشتملت التهمة، وهنا وجه العجب، على ترديد هتافات 'معادية للصهيونية'، وكأن العداء لإسرائيل صار جريمة تهدد أمن الدولة المصرية .
والمعنى، أن أولويات الأمن المصري صارت مقلوبة بالكامل، خاصة عند جهاز مباحث أمن الدولة، الذي يضرب بشدة على رأس ويد المصريين المعادين لإسرائيل والصهيونية، في الوقت الذي يعلن فيه جهاز المخابرات العامة عن اكتشاف شبكات تجسس إسرائيلية، وكأننا بصدد دولتين لا دولة واحدة، دولة تابعة لمدير جهاز المخابرات عمر سليمان، ودولة أخرى يديرها وزير الداخلية حبيب العادلي، تخدم الإسرائيليين وتحميهم بالقوة في مولد 'أبو حصيرة'، وتطارد المعادين لإسرائيل من الكفائيين وغيرهم، وتواصل حملات اعتقالها لآلاف تلو آلاف من كوادر جماعة الاخوان المسلمين، وتتكفل بعمليات التزوير الفاجر للانتخابات العامة، وترتكب جرائم التعذيب حتى الموت في السجون وأقسام الشرطة، وتستعين بقوات الأمن المركزي ـ التابعة لها ـ لإرهاب أي صوت وطني يناوئ النظام أو يطلب الحرية، وتنشغل بتحرياتها العبثية وتشويهاتها المريضة للمعارضين السلميين، وتخلق الأجواء المواتية لعودة إرهاب أعمى يضرب في المكان الخطأ، وفي الزمان الخطأ .
وطبيعي، أن أجهزة أمن أخرى دخلت على الخط، وبعد أن بانت خيبة جهاز مباحث أمن الدولة، وربما تنتهي الجهود إلى كشف خيوط، وتقديم قوائم وقرائن وقرارات اتهام، قد لا يصدقها المصريون تماما، فلا أحد يشعر بالأمان ولا بالثقة في مصر، وفي بيئة توحشت فيها أجهزة الأمن الداخلي بالذات، وداست على كرامات الناس، وأصبحت خطرا على حياتهم لا ضمانا لأمنهم، فعصا الأمن وحدها لا تقيم نظاما، ولا تكفل استقرارا، والبلطجة الرسمية تغري بالتقليد، وتستنسخ أقرانا لها في صورة جماعات بلطجة أهلية، تتكامل معها في الأنشطة الإجرامية، وهو ما بدا ظاهرا في عمليات التزوير الشامل للانتخابات الأخيرة، وفي دعم جماعات السنج والسيوف والمطاوي لعصي وبنادق الأمن المركزي، ثم ان الإرهاب الرسمي يستثير إرهابا من نوع آخر، يضرب في ما يتصوره مواطن الضعف، ويستفيد من أجواء احتقان سياسي واجتماعي وطائفي طافح، ويحرف الأبصار عن موطن الداء الأصلي في حكم جماعة مبارك، ويصرف البصر إلى تضخم مرئي لدولة البابا شنودة، التي تورطت في علاقة تواطؤ وجوار حسن مع دولة مبارك، وتداخلت بسلوكها وتقاطعت بضغوطها مع ذوي القربى في جماعة آل مبارك وأجهزة أمنها، وتلك حالة التباس مربكة، تنتهي إلى استبدال صور، وإلى اختلاط أوراق، وإلى تصريف طائفي خطر للاحتقان الاجتماعي، يكون الأقباط المسيحيون ضحيته الأولى .
نقول ذلك حتى لا تضيع البصيرة، ونتصور حلولا هي الغلط بعينه، فليست القضية الأصلية في مظالم حقيقية تلحق بالأقباط المسيحيين، بل القضية في مظالم أفدح لحقت بعموم المصريين، وليست الحلول ـ فقط ـ في تلبية ما يسمى مطالب المسيحيين، وهي حقوق بديهية لهم ولغيرهم، ومن نوع قانون موحد لبناء دور العبادة، أو التعجيل بإصدار قانون الأحوال الشخصية الجديد لطوائف المسيحيين، فحتى لو تحققت هذه المطالب الآن وفورا، فلن تؤدي إلى زوال الخطر، ولا ضمان الأمان للمصريين والمسيحيين بالذات، فحق المواطنة ليس نصا في قانون، وما أكثر النصوص الزاعقة بضمان الحقوق في مصر، لكن الواقع شيء آخر مختلف، فحقوق المواطنة محجوبة عن المسلمين قبل وبعد المسيحيين، والدين ـ في الممارسة ـ لا يبدو خالصا لوجه الله، بينما الدهس والتعذيب مكفول للجميع، والغضب الطائفي يرتد على أصحابه ويفاقم الاحتقان، وطلب النجدة من أمريكا يعني ضمان القتل للأقباط المسيحيين، فأصل الداء في الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية على أقدار المصريين، أصل الداء في جماعة تنهب وتحكم بالوكالة عن واشنطن وتل أبيب، ومطالب الغاضبين المنددين بحادث الإسكندرية لا يصح أن تقع في الخطأ نفسه، وأن تصور الأمر سجالا بين تطرف إسلامي وتطرف مسيحي، وأن تتنكر لبركة دم الشهداء، التي تزيح الغشاوات عن الأبصار، فإذا هي اليوم حديد، فلا حل حتى لو أقال مبارك وزير داخليته، والحل الوحيد الصحيح هو المطالبة بإقالة مبارك نفسه، وكنس اختيارات نظامه التي انحطت بمكانة مصر وأذلت أهلها، وجعلتها صيدا سهلا لجماعات الإرهاب العائد .