منذ الاجتياح الأمريكي للعراق، بدأ التفتت العربي يتحوّل من احتمال الى خطر داهم. بدءا بانفصال جنوب السودان، مرورا بالتفكك العراقي، والمأزقين الخطيرين في لبنان وفلسطين، ووصولا الى الخطر الطائفي الذي يهدد مصر، بشكل بالغ الجدية، ومثير للهلع.
نذكر انه بعد الهزيمة الحزيرانية المشؤومة، ارتفعت الأصوات من كل حدب وصوب تنعى الفكرة العربية. فبعد هزيمة مصر الناصرية، حُمّلت الفكرة العربية اوزار التسبب بالهزيمة. فالعروبة كانت، بالنسبة للكثير من المحللين اليمينيين الذين تصدروا الساحة، سبب الهزيمة، لأنها لم تكن سوى رؤية قومجية، (تضاف الجيم هنا بهدف التحقير). هكذا ارتاحت الأنظمة الملكية العربية من أخطار التهديد الذي شكلته العروبة لأنظمتها القروسطوية، بل انضمت الأنظمة الجمهورية الى الركب، فتأسست الجملكات، اي الجمهوريات الملكية او الجمهوريات الوراثية.
غير ان ما لم يتنبّه اليه دعاة الانعزاليات الوطنية في الأقطار العربية المختلفة، هو ان الفكرة العربية لم تستبدل بالوطنيات الضيقة، بل استبدلت بأيديولوجية جديدة عابرة للأوطان، هي التيارات الاسلامية بتلاوينها المختلفة.
حتى الآن تبدو الصورة وكأن العرب استبدلوا ايديولوجية بأخرى، فمع الهزيمة امام اسرائيل انتصر المؤتمر الاسلامي الذي كانت تقوده المملكة العربية السعودية على القومية العربية التي كانت تقودها مصر الناصرية. غير ان هذا التحول لم يكن سوى بداية لما هو اخطر من ذلك بكثير واكثر عمقا. وتجلى هذا التحوّل في مجموعة من المؤشرات:
المؤشر الأول، هو الانخراط الفاعل في القتال في المرحلة الأخيرة من الحرب الباردة، عندما تدفق المال والرجال من بلاد العرب الى افغانستان للمساهمة في تحقيق هزيمة الاتحاد السوفييتي. واللافت ان هذه المساهمة كانت بلا مقابل، اي لم يشترط حلفاء امريكا على حليفتهم اي تحوّل في سياساتها، خصوصا تجاه القضية الفلسطينية وتجاه القدس على وجه التحديد. بل كانت هذه المشاركة محاولة لتنفيس احتقانات داخلية وشكلت خدمة مجانية للولايات المتحدة.
المؤشر الثاني، هو خفوت صوت الدعوة الى مواجهة الاحتلال الاسرائيلي. تمت الاطاحة بنتائج حرب تشرين- اكتوبر، وتحول الانتصار الجزئي المصري الى بوابة للاستسلام، وتركت فلسطين تواجه قدرها وحيدة.
المؤشر الثالث، تجلى في واقع ان التقوقع حول الفكرة الوطنية او القطرية، بلغة القوميين العرب، تقود ليس الى تقوية جهاز الدولة الوطنية، بل على العكس الى تفكيكه، حيث تبرز خلف شعارات اولوية الأوطان، انقسامات طائفية واثنية مدمرة. هكذا تحوّل الديكتاتور الى غطاء لهيمنة طائفية في بعض البلدان، وقاد الى القمع الوحشي للأقليات القومية، او للطوائف الأخرى، ما يجعل الأوطان اطراً مهددة بالتفكك، بل هي على طريق التفكك.
ان استبدال الفكرة العربية الجامعة، بالفكرة الأقليمية المنغلقة، لم يقد الى ولادة دولة - امة بل قاد الى تفتيت الدولة، او جعل وحدتها رهناً بعصا الديكتاتور الغليظة، او بتوازنات دولية واقليمية، قد تتآكل في اي لحظة.
صحيح ان الثورة الايرانية وبروز المقاومة الاسلامية في لبنان، شكلت عناصر اضافية على الخريطة الاقليمية، غير انها لم تستطع اختراق معطى التفتتين الطائفي والمذهبي، لأنها كانت عاجزة عن تقديم بديل وحدوي يتجاوز الانقسامات الداخلية، جاعلا منها تنويعات على وحدة اجتماعية راسخة.
ان فهم التفتت واحتمالاته المروعة، وهي احتمالات تتجاوز الدول التي تشهد الآن توترات طائفية او مذهبية او اقوامية، ليمتد شبحها على مجمل الأقطار العربية تقريبا. فإذا كانت اقدم دولة موحدة في التاريخ، اي مصر مهددة بالجنون الطائفي، وبهستيريا الدم والموت والانتقام، فكيف سيكون حال دول رُسمت خرائطها على عجل من قبل الدول الاستعمارية، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وسقوط السلطنة العثمانية؟
لا يكفي ان نتحدث عن تراثنا العربي المتسامح، اذ كي يحق لنا ان نكون ورثاء هذا التسامح، علينا ان نثبت اننا لا نسقط في الهاوية التي نُقاد اليها، وكأننا اصبنا بفقدان جماعي للذاكرة، امام هذا الهوس الطائفي المستشري.
لا شك ان هناك الكثير من القوانين التي يجب تعديلها، والكثير من الممارسات القبيحة بحق الأقليات التي يجب ادانتها وادانة مرتكبيها، والكثير من العقلانية التي يجب ان تسود من جديد في وجه هذه الهستيريا العمياء.
غير ان التجربة المريرة التي نعيشها اليوم، تستدعي منا التفكير في هذا المرض الذي اصيب به الجسم العربي، وفي اسبابه.
قد يُقال ان المخابرات الاسرائيلية وغيرها تستغل الاحتقان الطائفي وتتسلل اليه، وهذا قد يكون صحيحا، لكنه لا يعفي النخب العربية من مسؤولياتها. فلو لم يكن المبنى الاجتماعي هشا، والمستوى السياسي متهاويا، والثقافة شبه ميتة، لما استشرى هذا المرض، وهيمن على العقول، وقاد الى هذه الهاوية المخيفة.
هنا نعود الى قتل الفكرة العربية، التي جاءت نتيجة حروب طاحنة شنتها اسرائيل والولايات المتحدة والأنظمة الرجعية العربية. (لاحظوا معي ان تعبير الأنظمة الرجعية خرج من اللغة السياسية في شكل كامل، هكذا صار نفط العرب وهو ثروتهم القومية الكبرى خارج السؤال، يفعل به الامريكيون ما يشاؤون، تاركين الفتات والمنظرة والتشبيح الاعلامي لحكام لا يحكمون الا بوصفهم محكومين).
العروبة هي فكرة وحدوية جامعة، لا تحمل اي سمات عنصرية او طائفية، لأنها تقوم على وحدة اللغة فقط، وهي لغة تكلمها وابدع بها جميع سكان العالم العربي طوعا، وتبنوها هوية ثقافية جامعة.
عندما ننسى الفكرة العربية، او يتم تهميشها لا تستبدل بالأوطان الصغيرة او بوحدة دينية جامعة، بل بديلها الوحيد هو التفتت والحروب الطائفية والانهيار، وصولا الى الركوع الكامل امام اسرائيل.