ذهب اربعة ملايين سوداني جنوبي الى صناديق الاقتراع يوم امس لتقرير مصيرهم، وسط مهرجان فرح كبير، حيث تؤكد معظم استطلاعات الرأي انهم سيصوتون لصالح الانفصال عن الشمال، ولاقامة دولة مستقلة خاصة بهم.
الفرح مفهوم فأهل الجنوب لم يعرفوا غير الحرب طوال السنوات الستين الماضية تقريبا بسبب حركات التمرد التي رفعت راية العصيان ضد الحكومة المركزية في الخرطوم، ورغبة الاخيرة، بل تصميمها على قمعها، وانهاء تمردها بقوة السلاح.
الاستقلال قد يتحقق، ولكن الاستقرار طموح محاط بالكثير من الشكوك وعلامات الاستفهام، فهناك حقول الغام كثيرة شديدة الانفجار مزروعة في الدولة الوليدة، قد تنفجر دفعة واحدة او بالتقسيط، الامر الذي قد يجعل هذا الاستقلال باهظ الثمن.
اهل الشمال يعيشون حالة من الصدمة، لانهم استبعدوا كليا من عملية تقسيم بلادهم، وانفصال ثلثها عنها، وكانوا يراقبون الموقف من مقاعد المتفرجين لا حول لهم ولا قوة.
الانفصال كلمة تحتل مكانا بارزا في القاموس السياسي السوداني، ومثلما اختار السودانيون، الشماليون منهم قبل الجنوبيين، الانفصال عن مصر عام 1956، ها هم الجنوبيون يقررون الانفصال عن الشماليين بدورهم، ويفضلون السير في طريق آخر، واختيار هوية اخرى مدعومين من قوى غربية والكنيسة الغربية خصوصا.
الدول الغربية تستطيع ان تقدم المساعدات المالية، والكنيسة الغربية يمكن ان تضاعف عدد المبشرين وتبني المزيد من الكنائس، ولكن الجانبين، اي الكنيسة والدول الغربية، فرادى او مجتمعة، لا يستطيعان منع الحرب الاهلية الداخلية اذا ما اندلعت بين القبائل، او حتى بين الشمال والجنوب مرة اخرى اذا ما تعذر الوصول الى اتفاقات ملزمة بين الجانبين على منطقة 'ابيي' الحدودية الغنية بالنفط.
فالصومال بلد مستقل قانونيا، وفيه حكومة ورئيس شرعي مدعوم من الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، خاصة اثيوبيا واوغندا وكينيا، فهل تحقق السلام والاستقرار فيه؟
الرئيس السوداني عمر البشير الذي سيدخل التاريخ على انه الرجل الذي كان رئيس الحزب الحاكم في الخرطوم عندما وقع الانفصال، لم يستبعد خيار الحرب اذا ما قررت الدولة الوليدة ضم هذه المنطقة، او الاقليم المتنازع عليه، من جانب واحد.
لا احد يستطيع ان يتنبأ بالمستقبل، القريب منه او البعيد، فالسودان بلد مثخن بالجراح النازفة، سواء في جنوبه او شماله او شرقه، وقد تؤدي الضغوط الغربية المكثفة على حكومته الى تحويله الى دولة فاشلة ولكن بحجم اوروبا الغربية كلها. وعلينا ان لا ننسى ان الشيخ اسامة بن لادن زعيم تنظيم 'القاعدة' اتخذه كنقطة تجميع وانطلاق لتنظيمه الحالي، ويتحرق شوقا للرجوع اليه بعد ان غادره مضطرا ومكرها الى افغانستان.
الرئيس السوداني عمر البشير بدا متألما ومهانا اثناء حديثه الى قناة 'الجزيرة' الفضائية يوم الجمعة الماضي، وقد بذل جهدا كبيرا لاخفاء غضبه وخيبة امله، واختيار الكلمات الملائمة او الدبلوماسية بالاحرى في الاجابة على الاسئلة المحرجة حول المستقبل، ولكن هذا لا يعني انه لا يملك خيارات اخرى، ومن يعرفه شخصيا، يدرك جيدا ما نقول. فالرجل 'جعلي' يملك قدرا كبيرا من الكرامة وعزة النفس، ومن غير المستبعد ان يهدم المعبد فوق رؤوس الجميع اذا استمر مسلسل الاهانات والتقسيم لبلاده.
فقد كانت لهجة التهديد واضحة في خطابه السياسي عندما هدد بسحب الجنسية من ابناء الجنوب المقيمين في الشمال، مؤكدا على رفضه الجنسية المزدوجة، مصرا على طلاق بائن، وكاشفا عن مخطط بطرد جميع المواظفين الجنوبيين من المؤسسات العامة والجيش، حيث يشكلون نسبة عشرين في المئة تطبيقا لاتفاق نيفاشا.
نتمنى على الرئيس البشير ان يتريث، وان لا يتعجل في قراراته، وان يستمر في التزامه باللهجة التصالحية التي عبر عنها في خطابه في جوبا، عندما زارها زيارته الاخيرة كرئيس للسودان الاسبوع الماضي، فلغة التهديد لا تفيد حاليا، وسحب الجنسية ليس حلا، فهؤلاء مواطنون جنوبيون اختاروا الشمال وطنا، مثلما اختار شماليون الجنوب وطنا، اما الموظفون في كادر الدولة فيجب ان يخيروا بين الانتماء الى الوطن الام، او الذهاب الى الدولة الوليدة، ويجب احترام خيارهم في البقاء، مثلما تم احترام خيار اشقائهم في الانفصال.