يعد البابا أثناسيوس الرسولى (296 ــ 373م) البابا العشرين من باباوات مدينة الإسكندرية من أهم وأبرز الشخصيات الدينية والكنسية التى لعبت دورا مهما فى تاريخ المسيحية فى مصر والعالم أجمع وهو ما جعل الكنيسة تمنحه لقب «الرسولى» تقديرا لمكانته فى الكنيسة المصرية ودفاعه عن العقيدة المسيحية شرقا وغربا.
ولقد نشأ أثناسيوس فى مدينة الإسكندرية، حيث تتلمذ على يد البابا ألكسندروس البابا التاسع عشر للإسكندرية الذى اهتم بأثناسيوس اهتماما شديدا لما لاحظه عليه من علامات الذكاء وشجاعة الرأى والحجة فألحقه بمدرسة الإسكندرية، حيث أمضى أثناسيوس هناك وقته فى الدراسة العلمية والفلسفية إلى جانب الدراسات اللاهوتية، ثم قضى بعدها ثلاث سنوات مع الأنبا أنطونيوس أبى الرهبان ومؤسس الرهبنة المسيحية فى مصر والعالم، وتعلم أثناسيوس خلالها أسس الرهبنة المسيحية وقواعد حياة العبادة والتنسك.
ولما عاد أثناسيوس إلى مدينة الإسكندرية رسمه البابا ألكسندروس شماسا ثم رئيسا للشمامسة واتخذه مساعدا له وهو لم يتجاوز وقتها الخامسة والعشرين من عمره، ثم رافقه إلى المجمع الذى عقد بمدينة «نيقية» فى آسيا الصغرى عام 325م. لمقاومة فكر آريوس المتعلق بطبيعة السيد المسيح، وكان آريوس قسا وواعظا مرموقا بكنيسة دار البقر إحدى كبريات كنائس مدينة الإسكندرية فى ذلك الوقت، وذهب فكره عند تفسيره لطبيعة السيد المسيح إلى تصور وجود إله متفرد كامل الوحدانية ولا يمكن معرفته أو إدراكه، ولكن عندما أراد هذا الإله أن يخلق العالم منعته طبيعته من خلق الكون المادى مباشرة ولذلك فقد خلق الكلمة وكانت كلمته هى المسيح بصفته ابنا له، وعلى ذلك فإن هذا الابن موجود قبل العالم بغير جسد ككائن متوسط بين الإله وبين العالم المادى، وعندما أراد الابن أن يتجسد للبشر فقد صار تجسده من العذراء مريم، وقد وجدت أفكار آريوس صدى واسعا بين الناس منذرة بحدوث شقاق فى العالم المسيحى، ولذلك فقد قام أثناسيوس فى المجمع بالرد على آريوس وأتباعه محللا أفكارهم ومؤكدا أن المسيح واحد فى الجوهر مع الإله الأب وأن الابن مولود وليس مخلوق، وهو ما دفع المجمع لأن يحكم بتجريد آريوس من رتبته الكهنوتية وطرده من الكنيسة، وقرر المجمع وضع صيغة لتحديد العقيدة المسيحية سميت بقانون الإيمان، حيث اشتركت فى وضعه لجنة ثلاثية مكونة من البابا ألكسندروس بابا الإسكندرية ومساعده أثناسيوس وليونتيوس أسقف قيسارية، وكان أثناسيوس صاحب الدور الأقوى تأثيرا فى هذه اللجنة ولذلك عد الواضع الحقيقى لصيغة قانون الإيمان فى الديانة المسيحية وهو القانون الذى مازال ساريا فى كل الكنائس المسيحية إلى الآن.
وعند وفاة البابا ألكسندروس فقد أوصى بانتخاب أثناسيوس بطريركا للإسكندرية خلفا له، حيث تولى أثناسيوس كرسى البابوية فى أواخر عام 329م. وقضى نحو 46 سنة فى رئاسة الكهنوت كانت كلها متاعب ونفى حتى وفاته فى عام 373م.
وخلال تولى البابا أثناسيوس الكرسى البابوى قام بإصدار العديد من الكتب والرسائل الدينية التى تزيد على الأربعين رسالة، موضحا فيها أمور العقيدة المسيحية وطقوسها، وقد سجلت أغلب هذه الرسائل باللغة اليونانية التى كانت لغة الثقافة آنذاك، وكانت هذه الرسائل توزع على الكنائس والأديرة، حيث تتم ترجمتها إلى اللغة القبطية ثم تحفظ فى مكتبة الدير أو الكنيسة سواء على أوراق البردى أو قطع الشقافة، وهى الكسرات المسطحة من الأوانى الفخارية التى كانت تستخدم فيما مضى كخامة رخيصة ومتوافرة للكتابة عليها، وفى العام 367م. أصدر أثناسيوس إحدى رسائله المهمة والتى تعرف باسم الرسالة التاسعة والثلاثين بمناسبة تحديد عيد الفصح لهذا العام وقام فى هذه الرسالة بترتيب أسفار الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد فيما يعرف بقانون القديس أثناسيوس، وتعتبر قائمة أسفار العهد الجديد التى أوردها فى هذه الرسالة هى أقدم القوائم التى ذكر بها السبع وعشرين إصحاحا المتفق عليها الآن، وللأسف فقد فقدت النسخ الأصلية المسجلة باللغة القبطية والتى تعود للقرن الرابع الميلادى من هذا القانون، ولم يتبق منها سوى فقرات من بعض النسخ المكتوبة على البردى والتى يعود أقدمها للقرن التاسع الميلادى.
وفى الثلاثينيات من القرن الماضى قام المتحف القبطى بشراء مجموعة من الشقافات القبطية من إسحق مجلع أحد أشهر تجار الآثار فى ذلك الوقت وكانت منها قطعة الشقافة رقم 3588 بالمتحف والتى يبلغ طولها نحو أحد عشر سنتيمترا وعرضها ثمانية سنتيمترات ومكتوب على سطحها الخارجى نص قبطى من أحد عشر سطرا بالحبر الأسود، وكنت قد اطلعت على هذه الشقافة بمخزن المتحف القبطى أثناء إعدادى لرسالة الدكتوراه، وقد أسعدنى الحظ أن شرفت بموافقة د. زاهى حواس الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار على نشر هذه القطعة، حيث قمت بنشرها فى المؤتمر الدولى الأول للقبطيات، الذى عقد بمكتبة الإسكندرية، وقد تبين من دراسة النص المسجل عليها أنه ترجمة قبطية لفقرة من الرسالة التاسعة والثلاثين للبابا أثناسيوس، وتحديدا تلك الفقرة التى يرتب فيه أسفار العهد القديم، كما تبين من دراسة أسلوب الكتابة والدراسة الخطية لهذا النص أنه مكتوب باللهجة القبطية الصعيدية بما يشير إلى أن هذه الشقافة قد جاءت من مصر العليا وأنها تعود لنهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس الميلادى، ولذلك يعد نص هذه الشقافة أقدم ترجمة قبطية معروفة فى مصر والعالم لفقرة من قانون القديس أثناسيوس الرسولى حتى الآن، كما أنه النص الوحيد لقانون أثناسيوس المسجل على شقافة حتى الآن والذى يشكل إضافة مهمة لعلم الآثار فى مصر والعالم وإضافة مهمة لرصيد مصر الأثرى وتاريخها العريق.